1- تذكّرْ أنّ الصّبر علامة الإيمان بالقضاء والقدر.
تذكّر - أخي المُصاب - أنّ فقد الأصحاب والأحباب أمرٌ مقضيٌّ قبل أن يخلق الله تعالى هذا الكون الفسيح.
وفي الحديث الّذي رواه مسلم عن عبدِ اللهِ بنِ عمْرِو رضي الله عنه قال: سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ: (( كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ )).
فما من نعمة، وما من نقمة، صغيرة كانت أو كبيرة، جليلة كانت أو حقيرة، إلاّ قد كتبها المولى تبارك وتعالى في كتاب لا يضلّ ربّي ولا يَنْسَى، فما على المؤمن إلاّ أن يقول:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} [التّوبة]، وقال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} [التّغابن].
2- تذكّرْ أنّ هذه الحياة ما هي إلاّ معبرٌ إلى الآخرة:
فجميع الخلق مسافرون، وعند الآخرة مستقرّون، فكيف يحزن المسلم من وصول حبيبه وعزيزه إلى دار القرار ؟!
فإن كنْتَ ولا بدّ أن تحزَن، فاحذر السّخط !
3- تذكّرْ أنّ الموت بلاء لا بدّ منه.
فالموت كسائر ما يحدث للعبد من جوع، وعطش، وحرّ، وبرد، ونحو ذلك.
فالله عزّ وجلّ جعل للعباد عبادةَ الشّكر، فتراه يُنعِم عليهم ليكونوا من الشّاكرين، كما جعل لهم عبادة الصّبر، فلا بدّ من البلاء ليكونوا من الصّابرين.
وقد قال تعالى مقسِما:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} [البلد] أي: في تعب وتقلّب بين السّرّاء والضرّاء، بين النّعماء والبأساء، بين عافية وبليّة، وبين نعمة ونقمة.
وقال مقسِما:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} [البقرة].
وتأمّل قوله تعالى:{بِشَيْءٍ}، فهو يدلّ على التّقليل، ليبيّن أمرين عظيمين:
أوّلهما: أنّه سبحانه مع البلاء فهو رحيم بعباده.
ثانيهما: ليبيّن أنّ ما يبتلينا به من النّقم قليل جدّا بالنّسبة إلى ما ينعم به علينا؛ لذلك قال أحد العلماء وهو يقرأ هذه الآية:" لقد وقانا الله من البلاء الكثير ".
وقال أحد السّلف وقد قُطعت رجله: اللّهمّ إن كنت أخذت فلطالما أعطيت.
وفي حقيقة البلاء وأنّه لا بدّ منه قال أحد الصّالحين:" رأيت جمهور النّاس ينزعجون لنزول البلاء ! كأنّهم لم يعلموا أنّ الدّنيا على هذا وضعت ! فهل ينتظر الصّحيح إلاّ السّقم، وهل ينتظر الكبير إلاّ الهرم، وهل ينتطر الموجود إلاّ العدم ؟! ".
ما قد مضى يا نفس فاصطبري له *** ولك الأمان من الّذي لم يُقـدر
وتيقّنـي أنّ المقـدّر كـائـن *** حتما عليك، صبرت أو لم تصبري
4- اُنظرْ إلى أهل البلاء ممّن هم حواليك:
فإنّ هذا من أعظم ما يهوّن المصاب عليك؛ لذلك كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلّم أصحابه هذا الأمر العظيم.
روى مسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ )).
وروى البخاري عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي المَالِ وَالْخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ )).
فما العمل حينها ؟
روى ابن ماجه عنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: كانَ رَسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ قَالَ: (( الْحَمْدُ للهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ )) وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ: (( الْحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ )).
5- ومن مفاتيح الصّبر أيضا: سؤال تُجيبُني عنه أيّها المصاب:
أرأيت لو قيل لك: نعطيك ما تريد، من النّساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة، والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، وما لا يخطر ببالي ولا ببالك، أو: أن تعيش مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟
تعيش معه، فتستمع إليه وهو يتحدّث، وتنظر إليه وهو يتكلّم، تعيش معه حياته، ومعاملته، وتكون من أصحابه ؟ أيّ شيء كنت ستختاره ؟
فلا شكّ أنّ المؤمن التقيّ، ذو المرّة السويّ، لا يقبل بهذه المقارنة الجائرة، والصّفقة الخاسرة، فإنّ العيش تحت ظلال الوحي النّبويّ هو سعادة الدّنيا بأكملها.
فكيف صبرت على أنّك لا تعيش معه ؟! إنّك إنْ صبرت على فراق سيّد الخلق صبَرت على غيره من باب أولى.
لذلك روى الإمام الدّارمي والبيهقي في " شعب الإيمان " عن ابن عبّاس رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِي، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ )).
ألا فلْيَهُنْ كلّ شيء بعده صلّى الله عليه وسلّم !
قال أبو العتاهيّة مسلّيا بعضَ إخوانه في ولد له اسمه محمّد:
اصبر لكـلّ مصـيبة وتـجلّـد *** واعلـم بأنّ المـرء غير مخلّـدِ
أَوَمَا تـرى أنّ المصائـب جمّـة *** وترى المنيّة للعبـاد بمـرصـدِ
من لم يُصـب ممّن تـرى بمصيبة ؟ *** هذا سبـيل لست فيـه بأوحدِ
فإذا ذكـرت محمّدا ومُصـابـه *** فاذكـر مُصـابك بالنّبيّ محمّـدِ
6- تذكّرْ أنّك أنت وولدك وأهلك ومالك لله عزّ وجلّ.
لذلك علّمنا ربّنا أن نقول:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، فتعلم حينها أنّ كلّ من حولك وديعة لديك، وضعها الله بين يديك، ولا بدّ من ردّ الوديعة، وكما قال لبيد رضي الله عنه:
وما المال والأهلون إلاّ وديعةٌ *** ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع
وفي موطّأ الإمام مالك عن القاسم بن محمّد قال: هلكت امرأة لي، فأتانا محمّد بن كعب القرظي يعزّيني فيها، فقال:
إنّه قد كان في بني إسرائيل رجلٌ فقيه عابد عالم مجتهد، وكانت له امرأة، وكان بها معجباً، فماتت فوجد عليها وَجْداً شديداً، حتىّ خلا في بيت وأغلق على نفسه ! واحتجب عن النّاس ! فلم يكن يدخل عليه أحد.
ثمّ إنّ امرأةً من بني إسرائيل سمعت به فجاءته فقالت: إنّ لي إليه حاجةً أستفتيه فيها، ليس يجزيني إلاّ أن أشافِهه بها، فذهب النّاس ولزمت الباب، فأُخبِر فأذن لها، فقالت: أستفتيك في أمر، قال: وما هو ؟ قالت: إنّي استعرت من جارةٍ حليّاً فكنت ألبسه وأعيره زمانا، ثمّ إنّها أرسلت إليّ فيه أفأردّه إليها ؟ قال: نعم، قالت: والله إنّه مكث عندي زماناً ؟ فقال: ذلك أحقّ لردّك إيّاه. فقالت له: يرحمك الله، أفتأسف على ما أعارك الله ثمّ أخذه منك وهو أحقّ به منك ؟ فأبصر ما كان فيه ونفعه الله بقولها.
7- أكثِرْ من الصّلاة، وعليك المحافظة عليها، والإكثار من التطوّع فيها:
قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]، و( كَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى [رواه أحمد وأبو داود عن حذيفة رضي الله عنه]..
وانظر يا من يترقّب الفرج بالرّزق الحسن إلى مريم، أين كانت وقت كان يرزقها الرّزاق ذو القوّة المتين:{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: من الآية37].
فأدرك زكريّا أنّ الصّلاة من أعظم ما يكشف الهمّ والغمّ، {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ (39)}.
فالصّلاة من أسباب الرّزق، وما أُعطِي عبدٌ عطاءً أوسع من الصّبر.
ولمّا أخبر ابن عبّاس رضي الله عنه بوفاة أخيه قثم رضي الله عنه، نزل من على دابّته، وصلّى، فسئل عن ذلك، فتلا عليهم قول العليّ المالك:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].
8- ومن مفاتيح الصّبر أيضا: وهو مسك الختام، ومفتاح دار السّلام: الاحتساب.
فتذكّر ما أعدّه الله عزّ وجلّ للصّابرين في دار السّلام، حتّى إنّ الملائكة إذا رأتهم لم تجد شيئا تصفهم به إلاّ أن تقول:{سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرّعد:24]، فلم تذكر إلاّ صفة الصّبر.
ليتذكّر المكروب معيّة الله:{إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
ليتذكّر المحزون حبّ الله:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: من الآية146]..
ليتذكّر النّعيم المقيم والثّواب الّذي قال فيه الله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: من الآية10].
ليتذكّر المكروب تكفير الذّنوب، روى التّرمذي عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ )).
وفي الصّحيحين عن عائشَةَ رضي الله عنها قالت: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا )).
ليتذكّر المؤمن الحديث القدسيّ الّذي رواه ابن ماجه عن أبي أمامَةَ رضي الله عنه عنْ النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( يَقُولُ اللهُ سبحانه: ابْنَ آدَمَ ! إِنْ صَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى لَمْ أَرْضَ لَكَ ثَوَابًا دُونَ الْجَنَّةِ )).
ولقد جاء ناس إلى أحد الصّالحين وقد فقد ولده، فتعجّبوا من صبره وجلده، وكأنّه لم يصبه شيء ! فقال:" وما لي لا أصبر، وقد وعدني الله على الصّبر ثلاث خصال كلّ خصلة منها خير من الدّنيا وما فيها ؟"، وتلا عليهم قوله تعالى:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) )الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}.
فاللّهم أفرِغ علينا صبرا، وثبِّت قلوبنا، وألهِم ذكرك والثّناء عليك ألسِنتنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.